إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره
، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
،
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على
نهجه إلى يوم الدين ، أما بعد:
نواصل في المحاضرة السادسة الحديث عن علم التوحيد وأنواعه وتصنيفاته ، سنتحدث بإذن الله تعالى عن:
• المقصود بعلم التوحيد لغة واصطلاحا.
• المصطلحات التي تدل على علم التوحيد .
• مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم .
• تصنيف التوحيد إلى نوعين والمصطلحات التي أطلقت على كل نوع .
بداية من هذه المحاضرة – بإذن الله تعالى – سيكون الكلام أكثر صبغة علمية ،
والمحاضرات الماضية كانت ضرورية لضبط المنطق والفطرة العقلية والفطرة
الإيمانية ، ثم نبدأ بعد ذلك الحديث عن المنهج العلمي .
• المقصود بعلم التوحيد لغة واصطلاحاً.
التوحيد لغة: مصدر وَحَّدَ يوحد أي أفرد الشيء يفرده ، فالتوحيد في أصله
معناه الإفراد ، إفراد شئ بشئ عن شئ ، فمثلاً: نُفرد إنساناً عن باقي
الإنسانية بشئ يتميز به ، بوصف ينفرد به .
فالمتوحد هو المنفرد بوصفه ، المباين لغيره ، فهو متميز عن الآخرين ومنفرد عنهم .
والمقصود بتوحيد الصحابة رضي الله عنهم لربهم أنهم أفردوا الله عن غيره بما
أثبته لنفسه من أنواع الكمال في العبودية والربوبية والأسماء والصفات، فهو
وحده رب العالمين المستحق للعبادة ، فلا يوجد أحد يحق له أن يُعبد من دون
الله ، فهذا الاستحقاق خاص برب العزة والجلال، قال تعالى: (إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) ، وربنا سبحانه وتعالى أيضاً
هو المنفرد بأسمائه وأوصافه كما قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11) ، وهو أيضاً المنفرد بالخلق
والملك والتدبير والتقدير كما قال سبحانه وتعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (الأعراف:54) ،
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
(طه:50) ، (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ ) (الزمر:62) ، هذا وصف ربنا تبارك وتعالى ، ولن تجد هذا الوصف في
سواه .
أما علم التوحيد اصطلاحاً: "هو علم يُعرف به طريقة الصحابة والتابعين في
توحيد الله بالعبودية وإثبات العقائد الإيمانية بأدلتها النقلية والعقلية،
والرد على المتبدعين في العبادات والمخالفين في الاعتقادات بالأدلة النقلية
والعقلية".
شرح التعريف:
"علم يعرف به طريقة الصحابة والتابعين": فهؤلاء هم خير القرون ، وقد خصصنا
الصحابة بالذكر على أساس أن تكون العقيدة صافية نقية كما كان عليها أصحاب
محمد بن عبد الله
.
"في توحيد الله بالعبودية": لأن هذا هو التوحيد الذي من أجله نزلت الكتب وأرسلت الرسل .
"وإثبات العقائد الإيمانية ": المقصود بالعقائد الإيمانية هو ما يعتقده
الشخص في باب الغيبيات ، في كل ما جاءنا عن رب العزة والجلال من أخبار .
"بأدلتها النقلية والعقلية ": فالأدلة النقلية أولاً ، ثم الأدلة العقلية ،
فنحن نقدم النقل على العقل ، ولا نلغي العقل في أن يُثبت هذه العقائد ،
ولكن ليؤيد النقل لا ليعارضه ، فالشخص يستخدم عقله لخدمة كتاب الله ، لا
ليعارض كتاب الله ويجعل كتاب الله على ما يراه هو بعقله فيقول: نأخذ هذا
ونرد هذا ، كما رأينا في قصة الجهم بن صفوان والمعتزلة .
"والرد على المتبدعين في العبادات": أي المبتدعين في باب الأوامر ، فإذا
قدَّم أحد عقله على كتاب الله في باب الأوامر التكليفية فسيبتدع في دين
الله.
"والمخالفين في الاعتقادات بالأدلة النقلية والعقلية "
وقد اخترت هذا التعريف من مجموع تعريفات كثيرة جداً تحدث عنها المتكلمون
وكثير ممن خاضوا في علم الكلام ، ولكننا أردنا التعريف المعبِّر فعلاً
ويتطابق صدقاً مع واقع الحال الذي كان عليه أصحاب النبي
.
• المصطلحات التي تدل على علم التوحيد .
نتحدث الآن عن المصطلحات التي أُطلقت على علم التوحيد عبر التاريخ الإسلامي
، بحيث أنك لو قرأت في كتاب أو سمعت هذا الاصطلاح تعلم أن المقصود هو علم
التوحيد.
هل علم التوحيد كان معروفاً كعلمٍ في أيام الصحابة والتابعين؟ ، إنك تجد من
يقول: هذه العلوم كعلم الحديث وعلم الفقه وأصول الفقه وعلم التفسير وعلم
القراءات لم تكن معروفة على أيام النبي
، فلماذا نحتاج لها؟
نقول: جميع العلوم جاءت بعد عصر النبي
، لكن لها أصول دعا إليها رسول الله
،
فلا بد لكل علم من العلوم أن نرى مستنده الشرعي ، فهل هناك مستند ورد في
الوحي يدعونا إلى أن ننشئ علماً كاملاً ونقوم على خدمته تحت مسمى علم
التوحيد أو علم الفقه أو علم الحديث ؟ فمن المهم أن نعرف أصل هذه العلوم ،
وهل هناك مستندٌ شرعي يُجوِّز لنا أن نقوم في الدين بهذا العلم ونُنشئه؟
فتجد من يقول : "هذه العلوم التي تتحدثون فيها مستحدثة ، فمن الذي قال بأن
التوحيد نوعان أو ثلاثة؟ لم يكن الصحابة يعرفون هذا".
ولذلك فإننا سنبحث في الشرع عن المستند الشرعي الذي يُخولنا في أن ننشئ
علماً كاملاً نخدم به كتاب الله عز وجل ، فقد بحثت في كل العلوم فوجدت بأن
لها أصلاً في الشرع كما سنرى ، فما هو مستند علم التوحيد ؟
النبي
لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى".
فمعاذ
سيذهب ليدعوهم إلى علم التوحيد ، فيجب أن يكون معاذ
مؤهلاً وعلى قمة العلم الذي يستطيع أن يدعو به هؤلاء ، خصوصاً أنه سيذهب إلى قوم من أهل الكتاب ،إذاً ، هو
خبير في علم التوحيد ، وإلا لما أرسله رسول الله
، والنص هنا على علم التوحيد بالاسم ، والمقصود هنا بالتوحيد توحيد العبادة ، ففي رواية قال
:
"فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" ، وفي رواية أخرى: "
فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله " ، فنفهم من مجموع الروايتين أن
المقصود هنا توحيد العبادة ، ويتبين من ذلك أن مصطلح توحيد العبادة كان
معروفاً على عهد النبي
.
فمصطلح توحيد العبادة لم يُنشئه محمد بن عبد الوهاب أو ابن تيمية كما
يقولون، وإنما هو نص نبوي، فمن قال بأن توحيد العبادة لم يكن معروفاً عند
السلف الصالح فقد أخطأ ، فالإمام البخاري رحمه الله تعالى أفرد باباً في
الصحيح في كتاب التوحيد قال فيه: (باب ما جاء في دعاء النبي
أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) ، فلو قام أناس خدموا علم التوحيد
وتوحيد العبادة وتحدثوا عنه بكل ما استطاعوا ، فالذي دعاهم إلى ذلك هو رسول
الله
.
وأما علم الحديث والجرح والتعديل والحفاظ على سنة النبي
والتثبت من نقلها برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، هل له مستند شرعي؟
نقول: علم الحديث أنشأوه اسماً ورَسماً عملاً بقول النبي
: " حدثوا عني ولا حرج" ، فلما يقوم العلماء بوضع علم لنقل الحديث عن رسول الله
وضبطه فلهم مستند شرعي ، فالذي جوَّز لهم هذا هو رسول الله
.
وأما علم الفقه فموجود مستنده في الدين ، فقد قال النبي
:
"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" ، فالفقه في الدين له مستند شرعي ،
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (التوبة:122) فعلم الفقه
وأصول الفقه علم شرعي وله مستند شرعي موجود في الشرع.
وأما بالنسبة لعلم اللغة فالله تعالى يقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً
عَرَبِيّاً ) (يوسف:2) فيجب أن نتعلم اللغة العربية التي نفهم بها كلام
الله عز وجل .
إذاً ، جميع العلوم الشرعية لها مستند شرعي إلا علم التصوف ، وقد صنفت
كتاباً اسمه "التصوف، هل له أصل في الكتاب والسنة؟" فهل هناك نص عن النبي
دعا فيه إلى التصوف ؟